حين تكون براءة الناس غير مؤمّنة، تكون حريتهم كذلك

تُعتبر قرينة البراءة من المبادئ الجوهرية للحق في المحاكمة العادلة، وهي تعني أن أي شخص يُتَّهم بارتكاب فعل جرمي يظل بريئاً إلى أن تُثبت إدانته بمقرر قضائي بعد محاكمة عادلة. ويجب أن يظل هذا الافتراض قائماً ما لم يثبت العكس، باعتبار أن لكل فرد في المجتمع الحق في أن يُعامل على أنه بريء، سواء قبل توجيه الاتهام الرسمي إليه أو أثناء المحاكمة.

ويُلزم هذا المبدأ القاضي بتجنّب أي تحيز مسبق ضد المتهم، مع التأكيد على أن عبء الإثبات يقع على الادعاء. وعند توفر أسباب معقولة للشك، يتعين أن يُقضى بالبراءة. وفي هذا السياق، تنص المادة 66 (3) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه لا يجوز للمحكمة أن تُدين المتهم إلا إذا اقتنعت بأنه مذنب “بما لا يدع مجالاً معقولاً للشك”. وهو حق مكفول بالمواثيق الدولية، ويوازي الحق في التزام الصمت وعدم الإكراه على الاعتراف.

الدستور المغربي كرس هذا الحق بشكل صريح، حيث نصّت الفقرة الرابعة من الفصل 23 على ضمان قرينة البراءة، مؤكداً في الفصل 119 أن “كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة يُعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به”. وهو ما ينسجم مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إضافة إلى الاتفاقيات الأوروبية المتعلقة بحقوق الإنسان، وذلك وفق ما جاء في ديباجة الدستور التي تُلزم الدولة بالوفاء بالتزاماتها الدولية.

ولتنزيل هذا المبدأ، نص قانون المسطرة الجنائية في مادته الأولى على تبني قرينة البراءة واتخاذ التدابير الكفيلة بحمايتها، مثل:

  • اعتبار الاعتقال الاحتياطي والمراقبة القضائية تدبيرين استثنائيين.
  • تحسين ظروف الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي، وإحاطتهما بمراقبة قضائية صارمة.
  • ضمان حق المتهم في إشعاره بالتهمة الموجهة إليه، وحقه في الاتصال بمحامٍ خلال فترة التمديد.
  • تمكين المحامي من تقديم ملاحظات كتابية أثناء الحراسة النظرية.
  • إلزام السلطات بإشعار عائلة الموقوف بوضعه تحت الحراسة النظرية.
  • رفض أي اعتراف يُنتزع بالعنف أو الإكراه (المادة 293 من قانون المسطرة الجنائية)، تماشياً مع المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ورغم وضوح هذه المقتضيات القانونية، فإن تنزيلها على أرض الواقع ما يزال يعرف بعض الاختلالات. من أبرزها:

  • غياب التنصيص الصريح على الجزاءات المترتبة عن خرق بعض المواد.
  • الاكتفاء بعبارات فضفاضة من قبيل “يتعين” أو “يجب” دون إلزام بعقوبات واضحة.
  • عدم تفعيل العقوبات الزجرية أو التأديبية ضد من ينتهكون هذه الحقوق الدستورية.

ويُخشى، في ظل هذا الوضع، أن يتحول المسار القضائي نحو مطالبة المتهم بإثبات براءته، في خرقٍ لجوهر قرينة البراءة. وهو ما يجعل تحقيق “المصلحة العامة” أحياناً يتم على حساب حريات المواطنات والمواطنين، في حين أن الحرية لا يمكن أن تكون مؤمَّنة إلا بضمان براءة الناس، كما لخّص ذلك مونتسكيو في كتابه الشهير روح القوانين: “حين تكون براءة الناس غير مؤمّنة، تكون حريتهم كذلك.”

شاهد أيضاً

تأجيل البت في طلب عزل رئيس جماعة تزروت إلى جلسة لاحقة

أجّلت المحكمة الإدارية بطنجة، اليوم الخميس، الجلسة التي كان مقرّرًا أن تنظر خلالها في طلب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *