الشرفة الأطلسية كانت سوقاً وبرج السعديين كان تلة.. سذاجة التبرير لتقسيم المجتمع

عرفت مدينة العرائش في 19 يوليوز الماضي محطة احتجاجية غير مسبوقة، خرج فيها المواطنون عن بكرة أبيهم للمطالبة بالحفاظ على الشرفة الأطلسية ومعالمها التي تشكّل جزءاً أصيلاً من هوية المدينة. هذا الحراك الشعبي السلمي أجبر السلطات على مراجعة التصميم العمراني وإدراج هذه المعالم ضمن مشروع التهيئة، في انتصار واضح لصوت المجتمع المدني.

لكن ما لبث أن خمد الشارع حتى برزت أصوات إعلامية محسوبة على المجلس الجماعي، تحاول اللعب على وتر تقسيم الرأي العام عبر ترويج مبررات ظاهرها “تاريخي” وباطنها التفاف على مطالب الساكنة.

فمرة يتم وصف الشرفة بأنها “غير تاريخية” بحجة أنها كانت سوق قبل تشييدها “حديثا” سنة 1920، ومرة أخرى يتم الادعاء بأن الاهتمام بها وإهمال حقب إسلامية قبلها هو “تبجيل للمستعمر الإسباني”، لأن المعلمة بُنيت في فترة الاستعمار. هذه الطروحات، وإن بدت متماسكة في ظاهرها، فهي في العمق تفريغ لمطلب الساكنة من محتواه الحقيقي، وتبرير سياسي للهروب من الالتزام بإعادة المعالم كما تم الاتفاق عليها.

إذا كانت الشرفة الأطلسية قد رأت النور سنة 1920، فهذا لا ينفي قيمتها التاريخية والرمزية. فمدن كبرى حول العالم تحتفي بمعالم أحدث منها بكثير، وتحوّلها إلى رموز لهويتها وذاكرتها المشتركة. القيمة ليست فقط في “قدم” البناية، بل في الحمولة الرمزية والثقافية التي اكتسبتها عبر الزمن، وعلاقتها الوجدانية بالساكنة. الشرفة لم تعد مجرد جدار أو ساحة، بل تحوّلت إلى فضاء للذاكرة الجماعية، ومن هنا تستمد مشروعيتها التاريخية.

وإذا سلّمنا بهذا المنطق السطحي القائل بأن “الشرفة لم تكن تاريخية لأنها كانت سوقاً قبل بنائها”، فإننا نقع في مفارقة مضحكة: فـبرج السعديين مثلاً كان قبل تشييده مجرد تلة تطل على البحر، فهل يعني هذا أنه ليس تاريخياً؟ وهل كل معلمة عمرانية ينبغي أن تُلغى قيمتها لأنها قامت على أرض كان لها استعمال سابق؟ إن هذا الطرح في جوهره إلغاء للتاريخ برمّته.

الادعاء بأن الشرفة “إرث استعماري” وبالتالي لا تستحق العناية هو تبسيط مغرض للتاريخ. كثير من المعالم في المغرب والعالم شُيّدت في فترات استعمارية أو تحت تأثير حضارات أخرى، لكنها اليوم جزء لا يتجزأ من هوية الشعوب. الذاكرة لا تُختزل في الحقبة التي بُني فيها الحجر، بل في تفاعل الأجيال معه وتحويله إلى رمز خاص بها.
العرائشيون لم يروا في الشرفة مجرد بناء إسباني، بل جعلوها نافذتهم على الأطلسي، وفضاءً للقاء، وهوية حضرية ارتبطت بهم عقوداً طويلة.

الحجج التي يُروَّج لها ضد الشرفة الأطلسية ليست بريئة، بل تقوم على مغالطات منطقية واضحة. أولها مغالطة رجل القش (Strawman Fallacy)، حيث يتم تحريف مطلب الساكنة من الحفاظ على معلمة ذات قيمة رمزية إلى اتهامهم بتبجيل الاستعمار. ثم مغالطة التضاد الكاذب (False Dichotomy)، التي تصوِّر الاهتمام بالشرفة وكأنه بالضرورة إهمال لتاريخ المسلمين وما قبل الاستعمار، بينما الواقع أن هوية المدن تُبنى من تراكم كل الحقب دون استثناء. وأخيراً مغالطة النية الخفية (Appeal to Motive)، عبر التشكيك في مقاصد المدافعين عن الشرفة واتهامهم بغايات سياسية أو فكرية لم يطرحوها أصلاً. هذه الأساليب لا تُناقش جوهر القضية، بل تهدف فقط إلى تشتيت النقاش وإضعاف وحدة الشارع.

ترويج هذه الطروحات في هذا التوقيت بالذات لا يمكن فصله عن استراتيجية واضحة: تفتيت وحدة الساكنة وتشتيت المطلب الشعبي. بعد أن أجبر الحراك المجلس على التراجع، يبدو أن هناك من يحاول استنزاف المعركة إعلامياً عبر خلق جدل جانبي: هل الشرفة تاريخية أم لا؟ هل تستحق العناية أم لا؟
هذا الجدل المفتعل لا يخدم سوى طرف واحد: من يريد التملص من التزاماته تجاه المجتمع المدني.

الشرفة الأطلسية ليست مجرد أحجار يمكن الاستغناء عنها أو طمسها بمبررات واهية. إنها جزء من ذاكرة العرائش، وحين يدافع السكان عنها فهم يدافعون عن هويتهم وحقهم في مدينة تحفظ ذاكرتها ولا تُسلّم رموزها للمحو تحت ذريعة “التحديث”.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن نسمح لخطاب تقسيمي أن يتسلل بيننا، في الوقت الذي أثبت فيه الشارع أن وحدته هي سلاحه الأقوى.

لهذا، فإن أي محاولة للتقليل من قيمة الشرفة، أو ربطها بالمستعمر لتشويه صورتها، يجب أن تُفضح وتُقاوَم بالوعي والحجة. فالتاريخ ليس ملكاً للمجالس، بل ملك للساكنة التي صنعت معناه عبر أجيال.

شاهد أيضاً

تأجيل البت في طلب عزل رئيس جماعة تزروت إلى جلسة لاحقة

أجّلت المحكمة الإدارية بطنجة، اليوم الخميس، الجلسة التي كان مقرّرًا أن تنظر خلالها في طلب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *