خذلان صعب

أصرت زوجتي على تناولي حبة ثوم على الريق مع زيت الزيتون، كاحترازٍ من هجوم الزكام في مطلع هذا الخريف البارد. سارة تردد دائمًا: أصعب أنواع الخذلان هو أن تخذلك صحتك، والباقي روايات تافهة. وقفت عند كلمة «تافهة» وفكرت قليلًا: لا ريب أن زوجتي تفكر في صحتي وتعمل لصالحي، بيد أنني اعتدت على تجاهل ما تقول وعدم الأخذ بنصائحها، مثل أي شخص متعنت يتوهم أنه واثق مما يعلم. فأقوم بتسفيه كلامها بطريقة فجة. أحيانًا أسخر منها بلا حد. لست أدري لماذا أصنع هذا؟ أحيانًا ينتابني شعور بأنني أغادر جسدي وعقلي، وبالتالي أصير شخصًا آخر؛ شخصًا عنيدًا إلى حد التهور لا ينتبه لحاله. لكنني هذه المرة قررت أن أضع حدًا لهذه المسخرة. فأمسكت حبة ثوم ووضعتها في فمي. التهمتها مجبرًا، ثم أتبعتها بملعقة زيت الزيتون.

منذ ذاك الحين، اتخذتها عادة راسخة من باب الوقاية الصحية، كإجراء استباقي لتجنب المرض. لكن ما سيحدث لاحقًا لم يكن في الحسبان.

مر حديث صامت بيني وبين نفسي وكأنه شريط خاطف دون أن أفصح عنه لسارة. مفاده أنني أدركت في الأخير أن الاحتراز الذي قمت به جاء متأخرًا وقد فات أوانه.

بعد ردح من الزمن، وفي صباح مشمس، استيقظت على صوت شجي، ورحت كعادتي إلى محل بائعة الخبز أبحث عن الفطور. لبثت أسير بخطوات هادئة فيما صدى أغنية فيروز «يا طير» يلاحقني ويشذب روحي.

وقفت عند الباب ألقي نظرة فاحصة على حلويات ومعجنات معروضة على رفوف من زجاج. كان سرب النحل يحوم حول طاوة حلوى الشامية، يحط ثم يطير متنقلًا من قطعة إلى أخرى. لسبب ما شعرت بشهية مريعة حيالها كادت تسيل لعابي. في تلك الأثناء، كانت فتاة جذابة تضع غطاء ورديًا فاقعًا على رأسها تقف خلف الرفوف، وترتسم على محياها ابتسامة حانية. كانت ترقبني بعينيها العسليتين، ثم تهش بمنديل أبيض على النحل الكثيف في محاولة لإبعاده عن قطع الحلوى.

على حين غفلة، ودون سابق إنذار، باغتني وخز حاد في صدري. مددت يدي إلى رقبتي فشعرت ببلل، ثم أحسست بدوار شديد. لم يعد يظهر أمامي شيء عدا غباش كثيف يحول دون رؤيتي. جلست على الأرض وأسندت ظهري إلى جدار خشبي. بدأت ألهث، وأنفاسي تتصاعد وتتقطع. أشعر وكأني أختنق. ما إن لمحتني الفتاة من وراء الكونتوار، حتى خاطبتني بصوت رخيم: ما بك؟ قلت: لا أدري، أشعر بالعطش. ناولتني كوب ماء ثم قالت: هل تريد أن أستدعي لك سيارة إسعاف؟ قلت: لا، أنا بخير. أظنها مجرد غيمة عابرة. شربت حتى ارتويت، ثم نهضت من مكاني وتابعت سيري في ترنح لافت نحو البيت. حكيت لسارة كل ما حدث لي داخل المخبزة. فزعت من كلامي، وعلى جناح السرعة أمسكت الهاتف في ارتباك واضح لتتصل بالطبيب. شرحت له ما حصل في عجالة، فأشار عليها كي تحضرني إلى العيادة على الفور.

ركبنا السيارة واتجهنا نحو العيادة بشارع مولاي إسماعيل. ألفينا شابًا طالع المحيا يدهن شعره بمرهم رفيع واقفًا عند البهو. علمنا لحظتها أنه طبيب القلب والشرايين. شاب طموح في بداية الثلاثينات من عمره يدعى عمر هدار، خريج إحدى جامعات ألمانيا. على الأقل، هذا ما تقوله لوحة رخامية لامعة مثبتة عند مدخل العمارة. وصلت منهكًا لا أكاد أقف على قدمي، وفمي ناشف من الريق. أخذ الدوار يتلاشى شيئًا فشيئًا، لكن صدري لا يزال منقبضًا، هذا ما بحت به للطبيب عند بدء الفحوصات اللازمة لتشخيص المرض المباغت.

سيتضح لي فيما بعد أنه خلال حياتي خشيت أشياء كثيرة: الفقر، الخوف من المستقبل، تراكم الديون، وفقدان سيارتي.

لكن يبدو أن الشيء الوحيد الذي كان يتوجب علي خشيته هو فقدان صحتي…

شاهد أيضاً

العرائش تسجل ثاني أكبر كمية تساقطات في المغرب خلال 24 ساعة الماضية

سجلت مدينة العرائش، خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، تساقطات مطرية بلغت 27 ملم، وفق المعطيات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *