بقلم: جمال السباعي
تبدو الأرقام في ظاهرها صغيرة، لكنها حين تُقرأ في سياقها المالي والإداري تكشف عن مفارقات تثير التساؤل حول طبيعة الأولويات في تدبير الشأن المحلي.
ففي الوقت الذي خصصت فيه جماعة طنجة — بميزانية تفوق 1.16 مليار درهم — نسبة لا تتجاوز 0.17% لمصاريف الإطعام والاستقبال، وخصصت تطوان حوالي 0.08% فقط، نجد أن جماعة العرائش رفعت هذه النسبة إلى 0.24%، أي أكثر من مدينتين تتقدمانها في الإمكانيات والموارد.
لكن الأخطر من ذلك أن هذه النسبة لا تعكس الواقع الفعلي. فحسب مصادر مطلعة داخل الجماعة، يقوم الرئيس بإعادة تحويل اعتمادات مالية من فصول أخرى لم يتم صرفها، وتوجيهها نحو بند الإطعام والاستقبال، مما يرفع المبلغ الحقيقي إلى ضعف الرقم المعلن في الميزانية الرسمية (أي ما يعادل نحو 700 ألف درهم).
وبالتالي، فإن النسبة الحقيقية من الميزانية العامة الموجهة لهذا البند تتجاوز 0.45% — أي ما يقارب نصف في المائة من الميزانية العامة، في مدينة تعاني هشاشة واضحة في أبسط مرافقها الحضرية.
من يتجول في العرائش اليوم يدرك أن أولويات المدينة لا تكمن في حفلات الاستقبال ولا موائد الضيافة، بل في الطرق المهترئة، وضعف الإنارة، وتراكم الأزبال في عدد من الأحياء.
ورغم ذلك، تواصل الجماعة توجيه موارد مالية مهمة إلى ما يُعرف بـ”مصاريف التمثيل”، وكأنها مدينة مكتملة البنية التحتية وتبحث فقط عن تحسين صورتها البروتوكولية.
المفارقة مؤلمة: فمدينة تطوان، بميزانية تتجاوز المليار درهم، تصرف أقل من مليون درهم على الإطعام والاستقبال، بينما العرائش — التي لا تصل ميزانيتها إلى 150 مليون درهم — تصرف ضعف ذلك نسبيًا.
لا يمكن إنكار أن القانون يسمح بتحويل الاعتمادات بين الفصول داخل نفس الباب، لكن سوء ترتيب الأولويات هو المشكلة الجوهرية هنا.
فحين تُحوّل أموال مخصصة للتنمية أو الصيانة إلى بند الإطعام، فإن ذلك يعكس ثقافة تدبيرية تضع “الواجهة” قبل المضمون، وتُغذي فكرة أن العمل الجماعي يُقاس بعدد الولائم لا بعدد المشاريع المنجزة.
الأمر لا يتعلق فقط بالأرقام، بل بالفلسفة التي تحكم التسيير: إرضاء الزائرين والمقربين على حساب حاجيات السكان.
وفي الوقت الذي تتجه فيه مدن كطنجة وتطوان إلى ضبط مصاريفها والالتزام بترشيد النفقات، تبدو العرائش وكأنها اختارت الطريق المعاكس: الاحتفاء بالمناسبات بدل الإنجازات.
اليوم، لم يعد المواطن يقيس أداء منتخبيه بعدد الولائم ولا بالصور الملتقطة في حفلات الشاي، بل بجودة الأرصفة والطرق، ونظافة الأحياء، وتوفير الخدمات الأساسية. إنها لحظة تحتاج فيها العرائش إلى مجلس يدرك أن التنمية ليست طاولة طعام، بل مشروع حياة لمدينة عطشى للإنجاز الحقيقي.
العرائش 24