بقلم جمال السباعي
مدينة العرائش، كغيرها من مدن المغرب، تعيش مفارقة غريبة تكشف حالة الشارع المغربي اليوم. ففي الوقت الذي تُعاني فيه المدينة من مشاكل بنيوية واضحة، من طرق مهترئة، وبنيات صحية محدودة، ومدارس متعثرة، يتحول أي نشاط يحمل مظهرا من مظاهر الفرح إلى موضوع رفض واسع، بل إلى قضية “كرامة” في نظر البعض.
لقد شاهدنا في السنوات الأخيرة كيف خرجت أصوات تحتج على تنظيم مهرجانات موسيقية أو ثقافية بالعرائش، متهمة إياها بأنها تبذير للمال العام. والحقيقة أن هذه المهرجانات، مثل مهرجان صيف العرائش أو غيره من المبادرات الثقافية، لا تُمول من ميزانيات الصحة والتعليم أو البنية التحتية، بل من ميزانيات مخصصة للثقافة والسياحة، كما أن جزءا من مداخيلها يعود بشكل مباشر إلى جيوب الباعة البسطاء، وأصحاب المقاهي والفنادق، ممن يشكلون أساس الاقتصاد المحلي. ومع ذلك، صار الرفض سيد الموقف، وكأن الفرح نفسه أصبح جريمة.
الأمر لم يتوقف هنا؛ فحتى صور أطفال يبتسمون بجانب فنانهم المفضل، جرى اعتبارها رمزا “للتفاهة”، بينما هي في جوهرها لحظة علاج نفسي لطفل لا دخل له في هذه المنظومة المختلة. هذا الرفض يعكس حالة نفسية جماعية يعيشها المواطن المحروم: إذ كيف يقبل أن يرى البهجة علانية، بينما حياته اليومية مثقلة بالحرمان؟
الخلل الحقيقي ليس في الشارع، بل في السياسات التي فشلت في إعادة بناء الثقة. المواطن الذي أصبحت مستشفياته مكاتب “للطرونسفير” فقط ومدارسه للإختباء من البطالة ووسائل نقله معاناة يومية وشوارع مدينته تغدي السواد في قلبه، يختزل كل شيء في معادلة بسيطة: “إما أن تحل مشاكلي الجوهرية، وإما فلا داعي للفرح”. هكذا فقد الشارع بوصلته، وصار يعارض حتى ما يمكن أن يخفف عنه قليلا من ثقل الواقع.
إن الدولة اليوم مطالبة بأن تضرب بيد من حديد كل من فشل في توفير الأولويات أو عرقل الوصول إليها: تعليم جيد، صحة تحفظ الكرامة، وبنية تحتية تليق بالمواطن. حينها فقط يمكن للشارع أن يميّز بين مهرجان يشكل متنفسا ورافعة سياحية واقتصادية، وبين هدر حقيقي للمال العام. كما أن إعادة الاعتبار للفرح يجب أن تكون سياسة رسمية، باعتباره حقا لا يقل أهمية عن الحقوق الاجتماعية.
العرائش، بما عرفته من جدل واحتجاجات حول مهرجاناتها وأنشطتها الفنية، ليست سوى مرآة تعكس صورة المغرب ككل. إن معالجة هذا الخلل تتطلب من الدولة أن تبني الثقة عبر بناء مسير كفء ونزيه وسياسات تعطي للأولويات أهمية قصوى بالتوازي مع توفير مظاهر الفرح للجميع، ومن المجتمع أن يتصالح مع الفرح باعتباره جزءا من العلاج النفسي الجماعي، لا ترفا ولا خيانة.
العرائش 24