السوق الصغير .. الركن العتيق
بقلم حسام الكلاعي
في رحاب ذاك الركن العتيق من مدينة العرائش، حين يعانق البصر بوابات الأسوار العتيقة وتتجاور الأصوات في بهو السوق الصغير، يتكشّف أمام الناظر عالمٌ يشبه الحلم. تبدأ الحكاية من حواري تاريخٍ بائد، إذ ترى البنايات وقد انتصبت برصانة تشهد على قرون مضت، وعلى روحٍ إنسانيّةٍ أينعت بين الأعمدة والقباب والمسالك المتشابكة.
من عتبة “باب القصبة” حتى بهو “باب المدينة”، تتسرب روائح التوابل وعبق القهوة ورائحة الخبز الطازج، فتستفيق فيك ذكرياتٌ لم تعشها، وكأن المكان ذاته يهمس لك بأنّ لكل حجرٍ فيه حكاية، ولكل منعطفٍ نشيدًا مخبّأً في صدور المارة. إنّ هذه المساحة، الواسعة في امتدادها، تُخفي في جنباتها سيرًا كثيرة: قصص الغزاة والإسبان والمرينيين، وصور السلطان سيدي محمد بن عبد الله وهو يبني أروقةً تحمي من فيء الشمس بظلال العقود القديمة.

تحت الأقواس التي تظلل طريق العابرين، ترى الوجوه التي جمعت بين عراقة الماضي وتطلعات المستقبل. هناك حرفيّ ينقش منحوتة على الخشب، تتوزّع أمامه أدوات خشنةٍ وثمينة، وكأنه يمزج روحه في كل قطعة يُبدعها. وهناك عجوز تتبع ظلال الذاكرة، تتصفّح بأصابعها أكوام الأقمشة الملونة، بعدما قطعت دكاكين السوق عشرات السنين وهي تغزل خيط حياة أهل هذه المدينة وخيوط زوّارها.
وفي مساءٍ يحضر فيه النسيم الآتي من المحيط، يتحوّل السوق إلى خشبة مسرح لروائع الفن الشعبي. يجتمع رواة القصص في حلقة وسط الساحة، وأصوات الدفوف والمزامير ترتفع لتضيء المكان بألحان عتيقة لها سحر يلامس القلب. فهنا وقف متصوفون و فنانون وحكاؤون قدموا من أصقاعٍ بعيدة، اجتمعوا بين جنبات السوق الصغير، وقد أرّخوا للمكان بأنفاسهم ونقشوا أسماءهم في ذاكراًة لا تكتبها إلا الروح.
إنّ السوق الصغير، أو السوق الداخل كما كان يُدعى، ليس مجرّد فسحةٍ للبيع والشراء، بل إنّه منبعٌ للحياة بكل تجلياتها؛ إنه نقطة انطلاق ومسلك عودة، هكذا يشعر كلّ من يخوض غمار التّجوال في دروبه الضّيّقة. فوحده هذا الفضاء استطاع أن يزاوج في حينٍ واحدٍ بين نبض التجارة وسكون التأمل، بين فرحة الاحتفالات الشعبية وروعة الوقار التاريخي، وبين سمو العمارة النيو كلاسيكية ودفء المنازل المغربية الأصيلة.

إن العابر إليه اليوم يقف مشدوهًا أمام أطياف الأسرار التي تغلّفه: هنا وُلدت حكمة الأجيال، وهناك تفتّحت أزهار التعايش الديني، وفي كل زقاقٍ ترافقك موسيقى الماضي وأطياف المستقبل. هو موعد مع التعدد والانصهار، مع استحضار حضاراتٍ تركت بصماتها ورحلت، مع الإحساس بلذة الانتماء إلى تربةٍ تناقلتها الأيدي عبر التاريخ بعناية ووفاء
لا غرابة إذن أن يكتب فيه الرحالة والأدباء سطورًا تصف نوافذه المشرعة على الحلم، وأسواقه التي تعجّ بالحياة. عند النظر في وجه السوق العتيق ترى في انكسار الضوء على الأرضيات المُبلَّطة حكاياتٍ لا تنضب، وتسمع في صدى الحوارات الدائرة هناك أهازيج عابرة للقارات، قادمة من جغرافيّاتٍ بعيدة.
والآن، إذ تجوب الساحة المترامية وتمرُّ على عمودٍ تلو آخر، تشعر بأنّ الزمن انكمش داخلك، حتى لا يبقى إلا همسٌ يهدهدك قائلًا إنّ السوق الصغير هو رحلةٌ في قلب روح المدينة، فكما تنفست العرائش من بين أسواره في عصور غابرة، ها هو اليوم يظلُّ جزءًا من هويّتها وسفيرًا لعظمتها في ذاكرة الإنسان. قد تهزّك الأضواء الحديثة ومظاهر التغير، لكنّك تدرك في عُمقك أنّ أصالة المكان أقوى من الزوال، وأن بقاء هذا السوق شاهدٌ حيٌّ على عراقةٍ ما انفكت تشع وتُلهم كلّ من يتلمّس الدرب.