روبورتاج أنجزه لجريدة “الصباح”: المختار الرمشي
عند زيارتك للقصر الكبير، المدينة الصغيرة التي ارتبط اسمها بمعركة “وادي المخازن” الشهيرة، لا شيء يوحي لك بأنك في زيارة لحاضرة تقول المراجع التاريخية إن وجودها يعود إلى أكثر من 700 سنة قبل الميلاد، ولن تجد صعوبة، حتى قبل الإنصات إلى سكانها، في الوقوف على “اختلالات” واضحة في كل مناحي الحياة، تنمويا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، بل حتى أمنيا، إذ يضطر المتجول بشوارع المدينة وأزقتها إلى أخذ الحيطة والحذر، واختيار المفردات المناسبة للتعامل مع جحافل من المتسولين والمتشردين إن أراد الخروج منها سالما..
القصر الكبير، المدينة الواقعة على ضفاف نهر اللوكوس بالطريق الرئيسية الرابطة بين طنجة والرباط، يعيش سكانها اليوم عزلة قاتلة، ساهم فيها التسيير الفاشل للمجالس الجماعية المتعاقبة، من جهة، والتهميش والإقصاء اللذين فرضتهما لسنوات طويلة الجهات المسؤولة على مستوى الإقليم والمركز من جهة أخرى، وهو ما حرم المدينة من حقها في التنمية، وجعلها تعاني مشاكل هيكلية متعددة، رغم توفرها على مؤهلات بشرية وطبيعية مهمة، تمنح إمكانية إيجاد بدائل اقتصادية مناسبة وملموسة ومستدامة.
ومن خلال زيارة قامت بها جريدة “الصباح” للمدينة، لاحظت مظاهر الفقر والبؤس والإجرام بادية بشكل واضح بجل أحياء المدينة، خاصة بالأحياء العتيقة كالديوان والشريعة وباب الواد، التي تنعدم فيها النظافة وتحتوي على كم هائل من المنازل الآيلة للسقوط، وكذا بعدد من الأحياء الهامشية الأكثر فقرا وإجراما، كـ “الزكاكرة” و”المناكيب” و”الكشاشرة”، التي تتباين فيها مستويات جودة الحياة، وترتفع فيها معدلات البطالة والجريمة، في ظل انعدام دور ومرافق تحتضن الشباب وتفتح لهم آفاقا لولوج العصرنة وترقية مداركهم، ما ساهم في بزوغ عدة ظواهر وسلوكيات اجتماعية خطيرة تمارس بالعلن، إذ رغم كل ذلك، لازال سكان هذه المدينة متشبثون بالأمل في إخراج مدينتهم من الفقر والحرمان، وإلحاقها بركب المدن التاريخية العريقة بالمملكة.
عدد من المواطنين، من بينهم فاعلون جمعويون وحقوقيون، عبروا لـ “الصباح”، في صريحات متفرقة، عن تذمرهم واستيائهم البالغين جراء ما تعانيه مدينتهم من مظاهر التهميش والفقر والهشاشة بجميع أشكالها، محملين مسؤولية ذلك للنخب المحلية، التي أصبحت غير قادرة على مباشرة مهام المنتخب من موقع الفعالية والنجاعة والعطاء، وأكدوا أن الفراغ قاد إلى هيمنة نمط من المنتخبين ولجوا العمل السياسي لبناء شبكات من المصالح الخاصة وتبادل المنافع، وهو ما أثر، بحسب سكان المدينة، على حسن سير مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمدينة، وساهم في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتسول بشكل مخيف ومرعب، ناهيك عن ازدهار تجارة الممنوعات بشتى أصنافها، بما فيها المخدرات الصلبة والأقراص المهلوسة والخمور المهربة، التي أدت إلى ارتفاع جرائم العنف والقتل والسرقة، وحولت حياة السكان إلى جحيم لا يطاق.
أحزاب مترهلة ومعارضة غير فاعلة
الجميع بعاصمة حوض اللوكوس يتحدث عن ضعف الأحزاب السياسية بالمدينة، وتخليها عن دورها في ممارسة التأطير السياسي والقيام بدور الوساطة بين المواطن والدولة، بعد أن تحولت جلها إلى مقاولات انتخابية تفتح أبوابها عند بداية كل استحقاق انتخابي لبيع التزكيات لمن يدفع أكثر، وتغلقها بمجرد الإعلان عن النتائج، وهو ما أفرز مجالس فاقدة للمصداقية والشرعية النضالية والنزاهة الأخلاقية والفكرية، ومعارضة مؤسساتية ضعيفة لا تتوفر فيها الكفاءة والخبرة اللازمتين لممارسة دور المعارضة البناءة، لأنها تفتقد للانسجام بين مكوناتها وليست لها بدائل ومقترحات عملية لتحقيق التنموية المحلية المنشودة.
كما أن دور المجتمع المدني كقوة ترافعية تسعى للتحقيق جودة الحياة لسكان المدينة، ضعيف جدا إن لم يكن منعدما تماما، لأن الجزء الأكبر تجده يقتات من الدعم الذي يحصل عليه من دوائر صناعة القرار المحلي، أما الجزء الآخر تبقى مهمته التشويش والتفنن في ممارسة الصيد في الماء العكر، باستثماره أسلوب الابتزاز والترهيب والتشهير من خلال توظيف صفحات إعلامية محلية ومواقع مشبوهة تشتغل تحت الطلب، بينما يبقى عدد قليل من الجمعيات الجادة، التي تعمل في صمت على إبراز هوية المدينة “الضائعة”، وتهتم بالتنمية الاجتماعية والثقافية المحلية، وهي أصوات قليلة لا يراد سماعها ويتم محاصرتها وتضييق الخناق عليها.
مشاكل اجتماعية والبيئية متداخلة
مشاكل القصر الكبير كثيرة ومتعددة، تتجلى في ضعف البنيات الحتية والسكن غير اللائق والأسواق العشوائية واحتلال الملك العمومي، بالإضافة إلى غياب النظافة في بعض الأحياء التي تشتهر بتربية الأغنام والدجاج والأرانب فوق السطوح، ناهيك عن ظاهرة التسول بكل أنواعه وأشكاله، وهي مظاهر وسلوكات تدمر الحس الجمالي للمدينة، وتنتقل بها من وضعيات الحياة المعاصرة إلى مجرد حاضنة لتفريخ وإنتاج قيم وعلاقات قروية بامتياز.
وبالنسبة للمجال السكاني، فإن انتشار مظاهر “الترييف” وانحلال النسيج الحضري للمدينة، بفعل تسارع وثيرة هجرة سكان البوادي المجاورة، التي أصبحت جماعية بالأسر والعائلات، ساعد على انتشار السكن العشوائي بكل تجلياته، وساهم في توسيع الهوة بين الأحياء المتركزة بوسط المدينة، وبين الأحياء الهامشية التي تفتقر لأبسط متطلبات العيش الكريم، ولازالت تعيش على تقاليد قروية وتهتم بتربية الماشية والدواجن.
المنظومة الصحية.. معاناة بلاحدود
لا يختلف اثنان على أهمية الخدمات التي تقدمها الأطر الطبية بالمستشفى المحلي للقصر الكبير لسكان المدينة والمناطق المجاورة، إلا أن انعدام ظروف عمل لائقة من نقص في الأطباء المختصين والتجهيزات الطبية والأدوية الاستعجالية، عوامل تؤثر على كل المجهودات المبذولة وتتسبب في اصطدامات يومية بين الأطر الصحية وعشرات المواطنين ممن خانتهم صحتهم وجاؤوا رفقة أهاليهم طلبا للاستشفاء والعلاج.
فبمجرد أن تطأ رجلك هذا المستشفى، لا بد أن يثير انتباهك الازدحام الشديد والطوابير المشكلة من المرضى ومرافقيهم، الذين يظلون ينتظرون دورهم لساعات طوال، منهم من يضطر لافتراش الأرض في انتظار حقه في التطبيب والعلاج، في مشهد يشبه إلى حد كبير الأسواق المكتظة بحشود من المتسولين والمتشردين، الذين ينتظرون من يمد لهم يد العون ويجود عليهم بصدقة.
بهذا المستشفى لا تسمع إلى الأنين والعويل والصراخ، لاسيما بجناح المستعجلات، الذي يشهد على مدار 24 ساعة اصطدامات ومشاذات كلامية بين الأطر الطبية وعينة من السكارى والمشردين ومجرمين، تنتهي أغلبها في الدوائر الأمنية، رغم جود حراس خاصين، الذين تخلوا عن أداء المهام الموكولة إليهم وأصبحوا يقومون بالاستقبال والتوسط وتوجيه المرتفقين، مقابل رشاوى تختلف قيمتها بحسب الخدمة المقدمة، وهو تصرفات غير أخلاقية تمس بكرامة المرضى وأسرهم.
وسبق لرئيس المجلس الجماعي، محمد سيمو، أن وجه رسالة كتابية لوزير الصحة والحماية الاجتماعية، نبهه فيها إلى النواقص التي تشوب المستشفى المحلي بالمدينة، من حيث الخدمات المقدمة والخصاص في الأطر الطبية والتمريضية، خاصة فيما يتعلق بالتخصصات، كطب الإنعاش والعظام والأشعة والتوليد… الأمر الذي جعل مستشفى المدينة مجرد محطة متخصصة في توجيه المواطنين صوب المستشفى الإقليمي بالعرائش أو الجهوي بطنجة من أجل إجراء الفحوصات أو تلقي الخدمات الطبية المطلوبة.
احتلال الملك العمومي.. الفوضى العارمة
ظاهرة احتلال الملك العمومي بالقصر الكبير، تعتبر من أهم الإشكالات التي تواجه تنظيم المجال وتطويره بالمدينة، بعد أن حول البائعون الجائون المدينة إلى سوق كبير، وخنقوا بسلعهم وعرباتهم المجرورة كل فضاءتها وشوارعها، حيث صار مرور السيارات ودخولها إلى بعض الأزقة مستحيلا، فيما يحتل أصحاب المقاهي ومحلات الأكلات السريعة الأرصفة المجاورة لهم، ويقومون بضمها إلى ملكهم الخاص عن طريق بنائها أو تسييجها، دون مراعاة لحياة المواطنين، الذين أصبحوا يمشون وسط الطريق جنبا إلى جنب مع السيارات والدراجات، لاسيما النساء والفتيات اللواتي يفضلن النزول من الأرصفة المحتلة تفاديا للمرور بين الطاولات والكراسي التي تعج بالمحملقين وأصحاب التعليقات اللاذعة.
يقول أحد النشطاء الجمعويين بالمدينة، أن ظاهرة احتلال الملك العمومي أصبحت قاعد ولم تعد استثناء، مبرزا أنه بالرغم من تهاطل الشكايات على مختلف المصالح المعنية، تعمل السلطات بين الفينة والأخرى على تنظيم حملات محتشمة يقوم بها أعوان السلطة المحلية ومعهم بعض أفراد القوات المساعدة، الذين يعملون على حجز بعض طاولات وكراسي المقاهي أو سحبها إلى الخلف، إلا أنه بعد وقت قصير تعود الحالة إلى ما كانت عليه، كما لو أن هناك اتفاقا سريا بين الجهات المعنية وأصحاب هذه المحلات يخول لهم الاستغلال والتملك.
القصر الكبير.. مدينة التسول بامتياز
ظاهرة التسول بالقصر الكبير اتخذت، في السنوات الأخيرة، أشكالا جديدة ومختلفة، فبعد أن كان جل المتسولين من العجزة والفقراء المحليين، تحول المدينة بشكل مريب إلى مجمع للمشردين ومختلين عقليا، الذين يتم نقلهم من مدن مختلفة وتفريغهم بمدخل المدينة، خاصة عند بداية كل موسم صيفي، وفق تصريحات نشطاء مدنيين وحقوقيين، الذين طالبوا بتدخل مصالح وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة من أجل إيجاد حلول عملية لهذه المشكلة، التي باتت تؤرق سكان المدينة.
وأمام الأعداد المتزايدة للمتسولين، الذين تجدهم أمام الأسواق والمحلات التجارية وبمختلف شوارع المدينة، صار كثير من المواطنين يتفادون الجلوس في المقاهي لأنها تستقطب جميع أصناف الشحاذين والمشردين، الذين يتعبون الزبائن بطلباتهم المتكررة، لاسيما النساء اللائي يضطررن إلى اتقاء شرهم بإعطائهم بعض الدريهمات لتفادي ملاحقتهن والتحرش بهن خلال الفترة المسائية أو الليلية.
وقد دفعت الوضعية الراهنة التي تعرفها أحياء وشوارع المدينة، رئيس البلدية، وهو نائب برلماني، إلى مراسلة عامل الإقليم ووزير الداخلية من أجل التنبيه إلى خطورة استقدام مختلين عقليا من مدن مجاورة، كما عمل على نقل معاناة السكان إلى البرلمان، وطالب من الوزارة الوصية على القطاع، عبر مديرية التعاون الوطني، بإنشاء فضاءات مخصصة لإيواء هؤلاء، بدلا من تركهم عرضة للتشرد والضياع.
الجماعة: انتقاذات مبالغ فيها
اعتبر يوسف الريسوني، كاتب مجلس جماعة القصر الكبير، أن كل الانتقادات والمشاكل المتحدث عنها مبالغ فيها، لأن حصيلة المنجزات، منذ بداية الولاية الحالية، كانت جيدة في جميع المجالات، وكان لها الأثر الكبير في النهوض بأوضاع عيش الساكنة والارتقاء بالمشهد الحضري وتعزيز جاذبية وجمالية المجال الترابي خدمة للتنمية المستدامة، وذلك نتيجة التعامل مع قضايا الشأن المحلي بالشفافية اللازمة.
وذكر الريسوني، في حديث مع “الصباح”، أن المجهودات المبذولة من طرف المجلس الجماعي تسعى للنهوض بظروف عيش المواطن، وتدعيم البنية التحتية بالمدينة عبر تنزيل مشاريع عديدة تهم تهيئة الطرق والأرصفة والأزقة والفضاءات العمومية ضمن برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية.
وحول سؤال “فوضى الباعة المتجولين”، أكد كاتب المجلس، أن هذه الوضعية لا تشكل استثناء باعتبارها ظاهرة تعاني منها جل المدن المغربية لعدة ظروف اقتصادية واجتماعية، موضحا أن مجلس جماعة القصر الكبير، بشراكة مع السلطات المحلية، منخرطة في المبادرة الملكية المتعلقة ببرنامج تجارة القرب لفائدة الباعة المتجولين، حيث تم تنزيل مشاريع إحداث أسواق القرب وفق مقاربة تشاركية مع القطاعات الحكومية المعنية، وكذا جمعيات الباعة الجائلين، وتهم أشغال تهيئة أسواق القرب “الزواك1” و”الزواك2″، و”رحبة اللبن”، التي وصلت نسبة الإنجاز بها 90%.
وبخصوص احتلال الملك العام، من طرف أصحاب المقاهي والمطاعم، أوضح الريسوني أن المجال يخضع للسلطة التنظيمية للجماعات الترابية، التي لها صلاحية إصدار قرارات الاستغلال دون مراقبة مخالفتها، التي تبقى من اختصاص السلطات الإدارية والأمنية، مبرزا أنه في حالة الاحتلال غير القانوني فإن المخالفين يخضعون لعقوبات تنفذ ضدهم حسب القوانين والأنظمة الجاري بها العمل.